فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

والفاء في قوله تعالى: {فَأُلْقِىَ السحرة سُجَّدًا} كما سلف فصيحةٌ معربةٌ عن محذوفَين ينساق إليهما النظمُ الكريم غنيّين عن التصريح بهما لعدم احتمال تردّدِ موسى عليه السلام في الامتثال بالأمر واستحالةِ عدمِ وقوعِ اللقْف الموعود، أي فألقاه عليه السلام فوقع ما وقع من اللقف فألقى السحرةُ سجّدًا لما تيقنوا أن ذلك ليس من باب السحر وإنما هي آيةٌ من آيات الله عز وجل.
روي أن رئيسَهم قال: كنا نغلِب الناسَ وكانت الآلاتُ تبقى علينا، فلو كان هذا سحرًا فأين ما ألقَيناه من الآلاتِ؟ فاستَدلّ بتغير أحوال الأجسامِ على الصانع القادرِ العالِم، وبظهور ذلك على يد موسى عليه الصلاة والسلام على صحة رسالتِه لا جرم، ألقاهم ما شاهدوه على وجوههم وتابوا وآمنوا وأتَوا بما هو غايةُ الخضوعِ، قيل: لم يرفعوا رؤوسَهم حتى رأَوا الجنةَ والنارَ والثوابَ والعقاب، وعن عِكرمة لما خرّوا سجدًا أراهم الله تعالى في سجودهم منازلَهم في الجنة ولا ينافيه قولهم: {إِنَّا امَنَّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خطايانا}.. إلخ، لأن كونَ تلك المنازلِ منازلَهم باعتبار صدورِ هذا القول عنهم {قَالُواْ} استئناف كما مر غيرَ مرة {امَنَّا بِرَبّ هارون وموسى} تأخيرُ موسى عند حكاية كلامِهم لرعاية الفواصل وقد جُوّز أن يكون ترتيبُ كلامهم أيضًا هكذا، إما لِكبَر سنَّ هارون عليه الصلاة والسلام وإما للمبالغة في الاحتراز عن التوهم الباطلِ من جهة فرعونَ وقومِه، حيث كان فرعونُ ربى موسى عليه الصلاة والسلام في صِغَره فلو قدّموا موسى عليه الصلاة والسلام لربما توهم اللعينُ وقومُه من أول الأمر أن مرادَهم فرعونُ.
{قَالَ} أي فرعونُ للسحرة: {ءَامَنْتُم لَهُ} أي لموسى عليه الصلاة والسلام، واللامُ لتضمين الفعلِ معنى الاتباعِ، وقرئ على الاستفهام التوبيخي {قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ} أي من غير أن آذنَ لكم في الإيمان له كما في قوله تعالى: {لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى} لا أن إذنَه لهم في ذلك واقعٌ بعده أو متوقَّع {أَنَّهُ} يعني موسى عليه الصلاة والسلام {لَكَبِيرُكُمُ} أي في فنكم وأعلمُكم به وأستاذكُم {الذى عَلَّمَكُمُ السحر} فتواطأتم على ما فعلتم أو فعلّمكم شيئًا دون شيء فلذلك غلبكم، وهذه شُبهةٌ زوّرها اللعينُ وألقاها على قومه وأراهم أن أمرَ الإيمان منوطٌ بإذنه فلما كان إيمانُهم بغير إذنه لم يكن معتدًّا به وأنهم من تلامذته عليه الصلاة والسلام، فلا عبرةَ بما أظهره كما لا عبرةَ بما أظهروه وذلك لِما اعتراه من الخوف من اقتداء الناسِ بالسحرة في الأيمان بالله تعالى ثم أقبل عليهم بالوعيد المؤكّد حيث قال: {فَلاقَطّعَنَّ} أي فوالله لأُقطعن {أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ} أي اليدَ اليمنى والرجلَ اليسرى، ومن ابتدائيةٌ كأن القطعَ ابتداءٌ من مخالفة العضو، فإن المبتدِىءَ من المعروض مبتدِىءٌ من العارض أيضًا، وهي مع مجرورها في حيّز النصبِ على الحالية أي لأقطعنّها مختلفاتٍ، وتعيينُ تلك الحال للإيذان بتحقيق الأمر وإيقاعِه لا محالة بتعيين كيفيتِه المعهودة في باب السياسة لا لأنها أفظعُ من غيرها {وَلاصَلّبَنَّكُمْ في جُذُوعِ النخل} أي عليها، وإيثارُ كلمةِ {في} للدلالة على إبقائهم عليها زمانًا مديدًا تشبيهًا لاستمرارهم عليها باستقرار المظروفِ المشتملِ عليه، قالوا: وهو أولُ من صَلَب، وصيغةُ التفعيل في الفعلَين للتكثير وقد قرئا بالتخفيف {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا} يريد به نفسه وموسى عليه الصلاة والسلام لقوله: آمنتم له قبل أن آذَنَ لكم، واللامُ مع الإيمان في كتاب الله تعالى لغيره تعالى وهذا إما لقصد توضيعِ موسى عليه الصلاة والسلام والهُزْءِ به لأنه لم يكن من التعذيب في شيء، وإما لإراءة أن إيمانَهم لم يكن عن مشاهدة المعجزة ومعاينةِ البرهان بل كان عن خوف من قِبل موسى عليه الصلاة والسلام حيث رأوا ابتلاعَ عصاه لحبالهم وعِصِيَّهم فخافوا على أنفسهم أيضًا، وقيل: يريد به ربَّ موسى الذي آمنوا به بقولهم: آمنا برب هارون وموسى {أَشَدُّ عَذَابًا وأبقى} أي أدوم. اهـ.

.قال الألوسي:

والفاء في قوله تعالى: {فَأُلْقِىَ السحرة سُجَّدًا}.
فصيحة معربة عن جمل غنية عن التصريح أي فزال الخوف وألقى ما في يمينه وصارت حية وتلقفت حبالهم وعصيهم وعلموا أن ذلك معجز فألقى السحرة على وجوههم سجدًا لله تعالى تائبين مؤمنين به عز وجل وبرسالة موسى عليه السلام.
روي أن رئيسهم قال: كنا نغلب الناس وكانت الآلات تبقى علينا فلو كان هذا سحرًا فأين ما ألقينا فاستدل بتغير أحوال الأجسام على الصانع القدير العليم وبظهور ذلك على يد موسى عليه السلام على صحة رسالته.
وكأن هاتيك الحبال والعصي صارت هباءً منبثًا وانعدامها بالكلية ممكن عندنا، وفي التعبير بألقى دون فسجد إشارة إلى أنهم شاهدوا ما أزعجهم فلم يتمالكوا حتى وقعوا على وجوههم ساجدين، وفيه إيقاظ السامع لإلطاف الله تعالى في نقله من شاء من عباده من غاية الكفر والعناد إلى نهاية الإيمان والسداد مع ما فيه من المشاكلة والتناسب، والمراد أنهم أسرعوا إلى السجود، قيل: إنهم لم يرفعوا رؤوسهم من السجود حتى رأوا الجنة والنار والثواب والعقاب.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة أنهم لما خروا سجدًا أراهم الله تعالى في سجودهم منازلهم في الجنة.
واستبعد ذلك القاضي بأنه كالإلجاء إلى الإيمان وأنه ينافي التكليف.
وأجيب بأنه حيث كان الإيمان مقدمًا على هذا الكشف فلا منافاة ولا الجاء، وفي إرشاد العقل السليم أنه لا ينافيه قولهم: {إِنَّا امَنَّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خطايانا} [طه: 73].. إلخ. لأن كون تلك المنازل منازلهم باعتبار صدور هذا القول عنهم.
{قَالُواْ} استئناف كما مر غير مرة {ءامَنَّا بِرَبّ هارون وموسى} تأخير موسى عليه السلام عند حكاية كلامهم المذكورة في سورة الأعراف المقدم فيه موسى عليه السلام لأنه أشرف من هارون والدعوة والرسالة إنما هي له أولًا وبالذات وظهور المعجزة على يده عليه السلام لرعاية الفواصل، وجوز أن يكون كلامهم بهذا الترتيب وقدموا هارون عليه السلام لأنه أكبر سنًا، وقول السيد في شرح المفتاح: إن موسى أكبر من هارون عليهما السلام سهو.
وأما للمبالغة في الاحتراز عن التوهم الباطل من جهة فرعون وقومه حيث كان فرعون ربى موسى عليه السلام فلو قدموا موسى لربما توهم اللعين وقومه من أول الأمر أن مرادهم فرعون وتقديمه في سورة الأعراف تقديم في الحكاية لتلك النكتة.
وجوز أبو حيان أن يكون ما هنا قول طائفة منهم وما هناك قول أخرى وراعى كل نكتة فيما فعل لكنه لما اشترك القول في المعنى صح نسبة كل منهما إلى الجميع.
واختيار هذا القول هنا لأنه أوفق بآيات هذه السورة.
{قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ}.
{قَالَ} أي فرعون للسحرة {ءامَنتُمْ لَهُ} أي لموسى كما هو الظاهر.
والإيمان في الأصل متعد بنفسه ثم شاع تعديه بالباء لما فيه من التصديق حتى صار حقيقة.
وإنما عدى هنا باللام لتضمينه معنى الانقياد وهو يعدي بها يقال: انقاد له لا الاتباع كما قيل: لأنه متعد بنفسه يقال: اتبعه ولا يقال: اتبع له، وفي البحر إن آمن يوصل بالباء إذا كان متعلقه الله عز اسمه وباللام إن كان متعلقه غيره تعالى في الأكثر نحو {يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61].
{فما آمن لموسى} [يونس: 83] إلخ.
{لَن نُّؤْمِنَ لَكَ} [البقرة: 55] {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} [يوسف: 17] {فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26]، وجوز أن تكون اللام تعليلية والتقدير آمنتم بالله تعالى لأجل موسى وما شاهدتم منه، واختاره بعضهم ولا تفكيك فيه كما توهم، وقيل: يحتمل أن يكون ضمير {لَهُ} للرب عز وجل، وفي الآية حينئذٍ تفكيك ظاهر.
وقرأ الأكثر {أَءمِنتُمْ} على الاستفهام التوبيخي والتوبيخ هو المراد من الجملة على القراءة الأولى أيضًا لا فائدة الخبر أو لازمها {قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ} أي من غير إذني لكم في الإيمان كما في قوله تعالى: {لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى} [الكهف: 109] لا أن إذنه لهم في ذلك واقع بعد أو متوقع، وفرق الطبرسي بين الإذن والأمر بأن الأمر يدل على إرادة الآمر الفعل المأمور به وليس في الإذن ذلك {أَنَّهُ} يعني موسى عليه السلام {لَكَبِيرُكُمُ} لعظيمكم في فنكم وأعلمكم به وأستاذكم {الذى عَلَّمَكُمُ السحر} كأن اللعين وبخهم أولًا على إيمانهم له عليه السلام من غير إذنه لهم ليرى قومه أن إيمانهم غير معتد به حيث كان بغير إذنه.
ثم استشعر أن يقولوا: أي حاجة إلى الإذن بعد أن صنعنا ما صنعنا وصدر منه عليه السلام ما صدر فأجاب عن ذلك بقوله: {أَنَّهُ}.. إلخ. أي ذلك غير معتد به أيضًا لأنه أستاذكم في السحر فتواطأتم معه على ما وقع أو علمكم شيئًا دون شيء فلذلك غلبكم فالجملة تعليل لمحذوف، وقيل: هي تعليل للمذكور قبل.
وبالجملة قال ذلك لما اعتراه من الخوف من اقتداء الناس بالسحرة في الإيمان لموسى عليه السلام ثم أقبل عليهم بالوعيد المؤكد حيث قال: {فَلاقَطّعَنَّ} أي إذا كان الأمر كذلك فاقسم لأقطعن {أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ} أي اليد اليمنى والرجل اليسرى وعليه عامة المفسرين وهو تخصيص من خارج وإلا فيحتمل أن يراد غير ذلك.
و{مِنْ} ابتدائية.
وقال الطبرسي: بمعنى عن أو على وليس بشيء.
والمراد من الخلاف الجانب المخالف أو الجهة المخالفة والجار والمجرور حسبما يظهر متعلق باقطعن، وقيل: متعلق بمحذوف وقع صفة مصدر محذوف أي تقطيعه مبتدأ من جانب مخالف أو من جهة مخالفة وابتداء التقطيع من ذلك ظاهر، ويجوز أن يبقى الخلاف على حقيقته أعني المخالفة وجعله مبتدأ على التجوز فإنه عارض ما هو مبدأ حقيقة، وجعل بعضهم الجار والمجرور في حيز النصب على الحالية، والمراد لأقطعنها مختلفات فتأمل، وتعيين هذه الكيفية قيل للإيذان بتحقيق الأمر وإيقاعه لا محالة بتعيين كيفيته المعهودة في باب السياسة.
ولعل اختيارها فيها دون القطع من وفاق لأن فيه إهلاكًا وتفويتًا للمنفعة، وزعم بعضهم أنها أفظع {وَلاصَلّبَنَّكُمْ في جُذُوعِ النخل} أي عليها.
وإيثار كلمة في للدلالة على إبقائهم عليها زمانًا مديدًا تشبيهًا لاستمرارهم عليها باستقرار الظرف في المظروف المشتمل عليه.
وعلى ذلك قوله:
وهم صلبوا العبدي في جذع نخلة ** فلا عطست شيبان إلا باجدعا

وفيه استعارة تبعية. والكلام في ذلك شهير. وقيل: لا استعارة أصلًا لأن فرعون نقر جذوع النخل وصلبهم في داخلها ليموتوا جوعًا وعطشًا ولا يكاد يصح بل في أصل الصلب كلام.
فقال بعضهم: إنه أنفذ فيهم وعيده وصلبهم وهو أول من صلب. ولا ينافيه قوله تعالى: {أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون} [القصص: 35] لأن المراد الغلبة بالحجة.
وقال الإمام: لم يثبت ذلك في الأخبار. وأنت تعلم أن الظاهر السلامة. وصيغة التفعيل في الفعلين للتكثير. وقرئ بالتخفيف فيهما.
{وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وأبقى} يريد من ن نفسه وموسى عليه السلام بقرينة تقدم ذكره في قوله تعالى: {ءامَنتُمْ لَهُ} بناءً على الظاهر فيه. واختار ذلك الطبري، وجماعة، وهذا إما لقصد توضيع موسى عليه السلام والهزء به لأنه عليه السلام لم يكن من التعذيب في شيء، وإما لأن إيمانهم لم يكن بزعمه عن مشاهدة المعجزة ومعاينة البرهان بل كان عن خوف من قبله عليه السلام حيث رأوا ابتلاع عصاه لحبالهم وعصيهم فخافوا على أنفسهم أيضًا، واختار أبو حيان أن المراد من الغير الذي أشار إليه الضمير رب موسى عز وجل الذي آمنوا به بقولهم: {امَنَّا بِرَبّ هارون موسى} [طه: 70].
{وَلَتَعْلَمُنَّ} هنا معلق و{فِرْعَوْنَ أَشَدَّ} جملة استفهامية من مبتدأ وخبر في موضع نصب سادة مسد مفعوليه إن كان العلم على بابه أو في موضع مفعول واحد له إن كان بمعنى المعرفة.
ويجوز على هذا الوجه أن يكون {أَيُّنَا} مفعولًا وهو مبني على رأي سيبويه و{أَشَدَّ} خبر مبتدأ محذوف أي هو أشد.
والجملة صلة أي والعائد الصدر، و{عَذَابًا} تمييز وقد استغنى بذكره مع {أَشَدَّ} عن ذكره مع {أبقى} وهو مراد أيضًا واشتقاق أبقى من البقاء بمعنى الدوام.
وقيل: لا يبعد والله تعالى أعلم أن يكون من البقاء بمعنى العطاء فإن اللعين كان يعطي لمن يرضاه العطايا فيكون للآية شبه بقول نمروذ {أَنَا أُحْىِ وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] وهو في غاية البعد عند من له ذوق سليم.
ثم لا يخفى أن اللعين في غاية الوقاحة ونهاية الجلادة حيث أوعد وهدد وأبرق وأرعد مع قرب عهده بما شاهد من انقلاب العصا حية وما لها من الآثار الهائلة حتى أنها قصدت ابتلاع قبته فاستغاث بموسى عليه السلام ولا يبعد نحو ذلك من فاجر طاغ مثله. اهـ.